ربما للمرة الأخيرة سأكتب عن هذا الألم الذي لا آخر له ولا قاع، دون أن يتلاشى من القلب أو يُنْسى ..أكتبه، وبذلك يصبح كل من قرأ شريكاً في الألم والرسالة والأمانة، أمانة رفض الظلم عن الإنسان أينما كان.
بعد شهرٍ تقريباً من الحياة مع إسراء في غرفة رقم 17/قسم 11 في سجن هشارون، جاء قرار بنقلي لغرفة رقم 5، كانت بعيدةً عن غرفة إسراء نسبياً، وكان في القلب غصة ما للفراق رغم أننا ما زلنا في نفس السجن، لكن كل شيء مهما بدا بسيطاً فهو في شعور السجين أمرٌ في غاية العمق! يومها مازحتني إسراء، كانت المزحة تنطوي على وصية دافئة: “هسه بنبطل نشوفك أبو شرار” آلمتني..
بعد ذلك اليوم، الذي نقلت فيه من الغرفة، دأبتُ كل صباحٍ أن أمرَّ عليها، وأطمئن على أمورها، لم يمض زمنٌ طويل في غرفة 5، حتى نقلت مرة أخرى إلى غرفة رقم 15، وكانت أقرب لغرفة إسراء، نلتقي خلال أوقات الفورة، أسلم عليها، ونتبادل الضحك، وتحدثني بصوت المهرج الذي أحبه فيها…
و جاء رمضان! كنا نصطف للصلاة جماعةً في الساحة قبيل الإفطار، وكان لإسراء كرسيها الذي تصلي عليه، ذات الكرسي الذي كانت تؤدي عليه كل الصلوات أيام كنا في نفس الغرفة، أذكر أني أولَّ قدومي كانت هي من دلني على القبلة، وراقبتني لأيام تتأكد أني أقف في الاتجاه الصحيح بشكل دقيق-قبل ذلك كان قد مضى عليَّ شهرٌ كاملٌ في مركز تحقيق المسكوبية أصلي فيه ولا أعرف اتجاه القبلة-.
في أواخر شهر حزيران/2016، جاء قرار من إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية (الشاباص)، بنقلي إلى سجن الدامون في حيفا، وخرجت صباحاً دون أن أودع إسراء، كانت نائمة، ولربما لم أرد أن أودع أحداً لأن الوداع قاسٍ أصلاً على قلبي، فكيف لو كان في سجن. أمضيت طريقي ما بين السجنين يخنقني بكاءٌ مرير..!!
بعد أقل من شهرٍ من نقلي إلى سجن الدامون، كان سجن هشارون محطةً أمكث فيها ليلتين خلال الانتقال ما بين السجن والمحكمة، ورحلة المحكمة شاقة طويلة، تمتد لأسيرات سجن هشارون ما يقارب 24 ساعة كونهن يخرجن من سجن هشارون إلى محاكمهن في القدس أو عوفر قضاء رام الله، أما لأسيرات سجن الدامون فالرحلة تمتد لثلاثة أيام. طالت الرحلة أم قصرت فهي صعبة، في داخل البوسطة، بيدين وقدمين مقيدتين لساعات طويلة..
في كل مرة كنت أعود فيها من المحكمة إلى السجن، ولا أذكر أني عدت مرة قبل الحادية عشر ليلاً إلى السجن، كانت إسراء تقف على ذات الباب الذي تسهر ليلها أمامه، والقلب يضج شوقاً وحنيناً، نادتني لتطمئن:”سلام،شو صار معك؟”
في يوم جلسة الحكم، عدت إلى القسم قرابة الواحدة فجراً، متهالكة القوى لا أكاد أستطيع الوقوف على قدمي، وقد فقدت تركيزي بشكل كامل تقريباً، نادتني بصوتها الدافئ، المُحبب والقريبٌ للقلب:”سلام شو صار معك؟”.
لم أكن أعي من أين يأتي الصوت ولا من صاحبته! “مين بينادي؟” تساءلت، فردت عليّ: “أنا إسراء، شو صار معك بالمحكمة؟”..وغصَّ قلبي..“انحكمت 10 شهور إسراء”…رغم أني لا أراها، لكنها بدأت تشد من أزري وترفع همتي..
في حسابي البشري، وضمن الأسباب التي كانت تبدو لي فإن ذلك الحديث كان الأخير بيني وبين إسراء، وكنتُ أسأل نفسي: “ترى أين الملتقى يكون بيننا يا الله؟ ومتى يكون؟”.
ظلَّ السؤال مفتوحاً، فلا سبب يعيدني إلى هشارون طالما قد صدر الحكم بحقي، لكن رزقاً لي من لقيا إسراء والسلام عليها كان قد قُضيَ أمره، ولا أعلم به أنا ولا هي حتى..
في 7.11.2016، في سجن الدامون، غرفة رقم 8، كنت على برشي (السرير)، دخلت صابرين أبوشرار (أسيرة محررة\بنت عمي)، قالت لي :”هسه حكوا على الراديو إنه حكموا إسراء 11 سنة”، لحظتها شعرت أن صاعقة ضربت قلبي فصدعته.. بعد صمتٍ لبرهة من الزمن، نطقت..“وااال،11 سنة!”
اليوم الواحد في السجن ثقيلٌ كدهر، فكيف بـِ 11 عاماً؟ 4015 يوماً وليلة؟ دون سماء تفرُّ إليها من ضعفك وألمك؟ ودون أهل تتقاسم معهم الفرح والحب والحياة؟ ودون ابن هو مهجة القلب وقرة العين؟ 4015 يوماً وليلة، في ذات المكان، دون أن تملك أمر نفسك، تتألم وحيداً، تبكي وحيداً، ويموت مع كل يوم ينقضي شيءٌ فيك ..
ما كانت السجون يوماً تشكو نقص طعامٍ أو شراب، لا واللهِ؛ إنما هي تشكو ظلماً وقهراً تعجز عنه الجبال الراسيات أن تحمله، فكيف يا الله ببشر من لحم ودم؟ لولا الإيمان لهلكنا ..
في أواخر تشرين الثاني\2016، كان قدر الله أن نلتقي من جديد، اشتعل الكرمل ناراً إذ ذاك، وأخلت إدارة مصحلة السجون الإسرائيلية أسيرات سجن الدامون، وكنت واحدة منهن، إلى سجن هشارون، التقيت إسراء وقتها، وكان الحكم قد صدر بحقها، كنت أتقدم باتجاه الغرفة رقم 17 التي كانت فيها ثم أتراجع…
ماذا بوسعي أن أقول لها وهي تنتظر 10 سنوات أخرى في السجن، فيما سأتركها بعد شهرين وأمضي تاركةً السجن وما فيه! في النهاية، استجمعت قواي، ودخلت، سلمت عليها، ومازحتها قائلة: “انتو ضلكم اطولوا وانا اوقف على روس اصابعي مشان اعرف اسلم عليكم”.
ضحكنا يومها، لكن ثِقلاً ما كانت تنوء به قلوبنا، نُصبِّر أنفسنا بأن الحكم حكم الله، وأن الفرج قريب، ونأمل ..
كم تبدو فكرة انتظار 10 سنوات أخرى في السجن مرعبة ؟ ماذا يصيب القلب فيها وهو يريد أن يطير سريعاً إلى نهايتها لكن ثِقَلاً لا مهرب منه يشده فيحد طيرانه.
11 عاماً،في سجن، يكبر الابن، وتتغير الحياة، يتزوج الإخوة والأخوات والصحب، يولد أطفال جدد في العائلة، قد يموت من الأهل والصحب والأحبة كثرٌ لا تدري بهم، ويغيب عن ناظريك أناس اعتدت أنهم مركز يومك كله …
تشتاق حضن أمك، فلا تجد سوى برشٍ بارد، وليل قاسٍ، وغياب طويل! تبحث عن الأمان في صوت أبيك، فتجد صرخة سجانٍ تصفعك، تفرُّ من كل ضعفك إلى السماء، فلا تجدها صافيةً أمامك، يصدك عنها حديدٌ وحديد وحديد وبأسٌ وظلم شديد ..
ثم يكون وصلك بأخيك برنامجاً إذاعياً تسمع فيه صوته، وقد لا يسعفك الطقس أو مكانك فلا تلتقط بث الإذاعة، فينقطع وصلك بأخيك ..تحضرني أبيات لهاشم الرفاعي تقول فيها أم لابنها :” ستمر أعوامٌ طوال في الأنين وفي العذاب….وأراك يا ولدي قوي الخطب موفور الشباب…تأوي إلى أم محطمة مغضنة الإيهاب!”
هذا ليس وجعاً، هذه فاجعة.. واللهِ لولا الإيمان بعدل الله لهلكنا! في تلك الفترة كانت إسراء أيضاً تلعب دور المهرج في السجن، وأكاد أجزم أنها لليوم سرُّ كثير من الضحكات والفرح، كما في قلبها سرُّ ألمٍ كبير..
صباح 29.11.2016 رأيت إسراء آخر مرَّة، سلمتُ عليها رفقة بقية الأسيرات، قبل أن نعود لسجن الدامون بعد أن أخمدت الحرائق ..وبقيت إسراء في الذاكرة، جرحاً مفتوحاً، نازفاً، تهيج آلامه، وأشواقه ..
آخر فيديو انتشر لإسراء، ضجت به وسائل التواصل، قررت أن أتحامل على نفسي وأشاهده لا لأسمع ما قالت إسراء، فما ستقوله رأيته وعشت معه زمناً أعمقَ من أن أنساه، إنما لشوقٍ في قلبي أن أسمع صوتها، وهذا تناقض موجعٌ لا يحسن فهمه إلا من برا الشوق قلبه و جسده!
قالت أن وجعها مرئي، كل ما هو مرئي من ألم، يواري خلفه ألماً أقسى لا يُحكى، ولا يختزل، وبالضرورة لا يُنسى ..ولا سبيل أن يُسَكنه شيء سوى حريةٍ ترد الغائبين لأهليهم ..
خلف قضبان السجن، آلاف القصص والأوجاع المنسية، قدر الله الآن أن تُحكى قصة إسراء، ولزمن لا أدري أيطول أم يقصر، ستظل آلاف القصص والأوجاع حبيسة الغرف المغلقة، والليالي الصامتة، والدمع الساخن!
هناك ما يقارب الستين أسيرة الآن داخل سجون الاحتلال، كلٌّ منها لها وجعها، وكلٌّ لها حكاية تمزق نياط القلب ..
حقٌّ علينا ألا ننساهن،،زهرات لم يبلغن الثامنة عشر، وأمهات تركن خلفهن أبناءً وبناتٍ يبتن في جفاء السجون، وقسوتها، وتحت سياط الظلم فيها.. بدلاً من بيوتهن الآمنة..خلف تلك الأسوار، آلام تخرُّ أمامها الجبال هدَّاً و الله ،حتى أنك مهما قلت تعجز أن تصفها ..
إسراء ليست وحدها هناك ..وحقٌّ على كل مؤمن صادق ألا ينساهن،،،
“وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا”
يؤلمني أشد الألم، أن تكون هذه الآية خاتمة النص، و أنا أعي معنى أن يعيش ما يقارب الـ7000 إنسان حفظ الله لهم كرامتهم ووهبهم حريتهم، في سجونٍ تدوس كرامتهم و تحط من شأنهم الإنساني ما استطاعت لذلك سبيلا،بكل ما أوتيت من قوة و جبروت!
و مثلهم في العالم كثيرٌ،يظلمون جهاراً نهاراً..لا كنا إن نسينا،لا كنا إن غفلنا،لا كنا ..
مهما كُتِب،فإنه بعد لم يكتب شيء، ومهما قيل فإنه بعدُ لم يُقَل شيء، وإنه لا سبيل سوى سعي لمن استطاع، فمن لم يستطع فالدعاء صادقاً، وقلبٌ لا يغفل عن الألم ولا ينساه،فالحر يؤلمه كل ظلم!
سلامٌ عليكِ يا أم المعتصم،عين الله ترعاكِ ..